في ديربان، إفريقيا تؤكد سيادتها الصحية: إطلاق كتاب “السيادة الصحية في إفريقيا – الدعوة”
ديربان، 27 يوليو 2025
تحت أضواء المؤتمر السنوي التاسع والعشرين لتحالف الرعاية الصحية في كوازولو ناتال، ارتفع صوت قوي ومعبّر. صوت قارة تقف شامخة، واعية، وعازمة على عدم تفويض مصيرها للآخرين. إفريقيا تعلن اليوم، بصوت مرتفع وواضح، أن الوقت قد حان لاستعادة زمام أمرها في مجال الصحة. وقد وجدت هذه الرسالة صداها في إصدار طال انتظاره، حملته منظمة “الصحة العالمية الإفريقية” (AGH): كتاب “السيادة الصحية في إفريقيا – الدعوة”.
بعد انطلاقته الأولى في مصر، ومروره بمحطة مفصلية في كينيا، ثم بلقاء بارز في كيغالي، جاء الدور على ديربان لاحتضان مرحلة جديدة من هذا المسار، مما عزّز زخماً قارياً يتنامى منذ أشهر. هذا الحدث الرابع جاء لترسيخ رؤية استراتيجية للسيادة الصحية في إفريقيا، تقوم على الواقع الميداني، والعلم، والتعاون بين دول الجنوب.
هذا الكتاب ليس مجرد منشور. إنه بيان. فعل سياسي. وقطيعة مقصودة مع أنماط التبعية القديمة. وقد جاء نتيجة تعاون جريء بين المغرب وكينيا وجنوب إفريقيا، بدعم من دار النشر “أوريون”. ويضمّ مساهمات من شخصيات بارزة في تجديد المشهد الصحي الإفريقي: الدكتورة إيمان قندلي (المغرب)، الأستاذ مورغان شيتي (جنوب إفريقيا)، الدكتور أميت ن. ثاكير (كينيا)، والسيد نجيب عبد الحق (المغرب). جميعهم يوقّعون على نداء حيوي من أجل سيادة صحية تقوم على العدالة والكفاءة والطموح.
واختيرت مدينة ديربان، بما تمثله من رمزية في المقاومة والنهضة، لتكون منصةً مثالية لهذا الإعلان. ففي قاعة مكتظة، جمعت وزراء صحة وخبراء ومهنيين شباب وناشطين وعاملين ميدانيين، استُقبل الكتاب كأداة حقيقية للتحول. عمل لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدم حلولاً. لا يقدّم وصفات جاهزة، بل يرسم مسارات واقعية وممكنة.
وقال الأستاذ مورغان شيتي، مضيف الفعالية ونائب رئيس المكتب القاري لـ AGH: “السيادة الصحية ليست شعاراً، بل ضرورة حتمية”. وكانت كلماته بمثابة دعوة إلى الكرامة، والاستقلالية، والذكاء الجماعي. وبالنسبة له وللمؤلفين، لم يعد هناك مجال للانتظار: “إفريقيا لا يمكنها أن تعتمد بعد الآن على حلول مستوردة. عليها أن تفكر وتبني قدرتها الذاتية”.
هذه الرسالة تتماشى مع دينامية أطلقت منذ أشهر، من الرباط إلى نيروبي، ومن داكار إلى كيغالي. وفي كل محطة، يتجدد الإصرار على استعادة الخطاب، وإعادة ابتكار النماذج، والارتكاز إلى الواقع الإفريقي لبناء نظم صحية شاملة، وأخلاقية، ومستدامة.
الكتاب هو ثمرة جهد جماعي شارك فيه خبراء من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا. ويتناول كل فصل ركناً استراتيجياً: إعادة توطين إنتاج الأدوية، إنشاء مختبرات لمراقبة الجودة، إدماج نهج “الصحة الواحدة”، الرقمنة الأخلاقية، تعزيز الكفاءات المحلية، تمويل البحوث من الداخل، وتوسيع نطاق التعاون بين دول الجنوب… وهي كلها ركائز لتحقيق سيادة حقيقية متعددة الأبعاد: علمية وثقافية وسياسية واجتماعية.
أما ما يميّز هذا الكتاب، فهو صوته. لغة واضحة، دقيقة، وسهلة الوصول. نبرة ملتزمة من دون تعصب. وخطاب موجّه إلى صناع القرار والممارسين والمواطنين والشباب. يسلّط الضوء على الإنجازات الميدانية، دون أن يتجاهل العراقيل والإخفاقات والإرث الاستعماري الذي لا يزال يثقل كاهل القارة.
ومن خلال نشر هذا البيان، تكرّس دار “أوريون” نفسها كفاعل ملتزم في النقاش الفكري الإفريقي. دعمها التحريري الصارم والمبدع ساهم في تحويل رؤية نضالية إلى مرجع موثوق. مساهمة حاسمة في معركة الأفكار والسرديات التي تخوضها إفريقيا اليوم لاستعادة مصيرها الصحي.
الترحيب الحار في ديربان عكس تحولاً حقيقياً. فقد تداول الحضور الكتاب، وفتح النقاشات، وخلق تفاعلات، وألهم استراتيجيات جديدة. في الممرات والمقاهي واللقاءات غير الرسمية، انتشرت طاقة جديدة: طاقة قارة لم تعد تكتفي بردّ الفعل، بل تسعى إلى الاستباق، والقرار، والبناء.
هذا الإطلاق ليس نهاية، بل بداية فصل جديد. فالعرض سيتواصل في أبيدجان، وأديس أبابا، وتونس، على أن تُقدَّم الخلاصات النهائية في جنيف، على هامش جمعية الصحة العالمية. والهدف واضح: أن يُقرأ هذا الكتاب، ويُناقَش، ويُترجَم، ويُكيَّف، من القرى إلى البرلمانات، ومن الجامعات إلى طاولات التفاوض الدولية.
من خلال هذا الكتاب، تؤكّد AGH طموحها بعيد المدى. فبعد أن أثبتت حضورها في العمل الميداني، والمنتديات الاستراتيجية، وشبكات التأثير، توسّع الآن نطاق تدخلها ليشمل إنتاج المعرفة المرجعية. توحّد دون أن تفرِض. تُلهِم دون أن تُملِي. وتبني، مع إفريقيا، ومن أجلها، وبواسطتها.
وستبقى ديربان في الذاكرة، لا كمرحلة عابرة، بل كنقطة تحوّل. اللحظة التي أعلنت فيها إفريقيا، الموحدة، المتضامنة، والسيدة: صحتنا هي قوتنا. ومن الآن فصاعداً، سنستعيد هذه القوة بأيدينا.